القرآن : إعجاز علمي

55ا

88

                      الكرة الأرضية على هيئة البيضة                نكور النهار على الليل                              

ما أكثر عدد المواقع الفرنسية والكتبة المأجورين لا من أجل مهاجمة وشيطنة الإسلام والمسلمين فحسب، ولكن خاصة من أجل إدانة القرآن الكريم ومحاولة تفنيده. فالخلية الفاتيكانية التي لا تكل ولا تهدأ من تقديم كتبة جدد لمواصلة هذه الحرب، القائمة على عدم أمانة لا مثيل لها، من أجل استبعاد الإسلام والمسلمين ومحاولة المساس بمصداقية القرآن الكريم وتحميله كافة مآخذ ونواقص الكتاب المقدس، تعمل بلا هوادة.. والمعادلة جد ساخرة بما أننا حيال كتاب مقدس تم تحريفه، ملئ بالمفاسد والتبديل والتحريف والحذف إلى درجة اختفت معها النصوص الأصلية تحت ذلك الزخم، اختفت تماما. ومن ناحية أخرى نجد نصا منزّلا، لم يخضع لأي عملية من عمليات التحريف: نص متفرد، لا يمكن محاكاته، مبهر ومعجز في آن واحد.

ولكي نوضح إعجاز هذا النص المنزّل من عند الله، في المجال العلمي وحده، سيتعيّن تقديم حوالي ثمانمائة آية متعلقة بالعلم، وهو من المحال في حيّز مقال متواضع، بما أنه يجب أن نأخذ في الاعتبار، في نفس الوقت، بكل المفسرين ومختلف الملامح اللغوية، إضافة إلى صعوبات الترجمة، معنى الفارق الشاسع بين اللغة العربية وبين محدودية اللغة الفرنسية. لذلك سأكتفي بمثال واحد لتوضيح إعجاز القرآن: ” وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ” ﴿30﴾ (النازعات) وكيفية ترجمتي لها.

القرآن :

لقد تم توثيق القرآن الكريم بدقة متناهية تفوق التصور، بحيث من المحال أن يناله أي تلاعب. إذ أننا نعلم أن عدد السور 114؛ والآيات 6236 ؛ وكلماته 77439 ـ وإن كان العدد يختلف وفقا للقراءات ؛ وعدد الجذور 1790 . وهنا تجدر الإشارة إلى أن معجم لسان العرب يتضمن ثمانين ألف جذرا، وهو ما يكشف عن مدى اتساع اللغة العربية من جهة، وان القرآن الكريم لم يستخدم سوى 2,2 % من الجذور اللغوية! وهذه الظاهرة في حد ذاتها تعد معجزة لغوية. وهو ما يمكن أن نضيف إليه أن هناك 1622 كلمة لم ترد سوى مرة واحدة، وهو أيضا ملمح إعجازي آخر، بينما لفظ الجلالة بتصريفاته المختلفة ورد 2702 مرة. وأطول آية، المتعلقة بالدين رقم (282 / البقرة) ؛ وأقصر آية هي ” ثُمَّ نَظَرَ ” (21 / المدثر) ؛ وإن أطول كلمة هي “ليستخلفنّهم” (55 / النور)؛ وأن نصف القرآن يقع في حرف “ف” من كلمة ” وَلْيَتَلَطَّفْ ” (19/الكهف). وأن التماثل العددي للكلمة وعكسها يمثل ملمحا آخرا من الإعجاز ودقة المعيار. فكلمة “الحياة” ترد 145 مرة وكذلك كلمة “الموت” ؛ و”الجنة” ترد 77 وكذلك “النار” ؛ و”الدنيا” ترد 115 مرة و”الآخرة” كذلك..

إن دقة التعبير القرآني تكشف عن معطيات جديدة في العلم الحديث. فعلى سبيل المثال: عبارة “يوم” وجمعها “أيام”. إن آية ” إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ” (54/الأعراف)، ونطالع في آية أخرى:” يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ “(5/السجدة)، وفي آية أخرى ” فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ” (4/المعارج). وهذه الاختلافات في تحديد مقياس “اليوم” لا تعد تناقضا وإنما تفهم وفقا لمعنى كل آية منها. وذلك يثبت تنويعات نسبية لمقياس الزمن. فاليوم هو فترة زمانية يمكن استخدامها كوحدة قياس لأي فترة أو مجال. وبذلك فإن عبارة “ستة أيام” في مجال في مجال الخلق تصبح “مراحل” أو “عصور”. ومن المفاهيم العلمية الجديدة قول إن 1 يوم على الأرض = س يوم على كوكب زحل مثلا. لذلك يُلزمنا القرآن ـ في مجال الترجمة ـ أن نأخذ في الاعتبار معطياته هو في المجال الواحد، ثم اعتبارات اللغة، ثم المعاجم والقواميس، ثم المفسرون. لأن هنا يمكن للرأي الشخصي أن يختلف أو يحيد، مثلما نطالع ذلك في ترجمات المستشرقين وتلاميذهم.

لذلك لم يقل موريس بوكاي من فراغ، في مقدمة كتابه “الكتاب المقدس والقرآن والعلم”: “إن القرآن يحتوي على كلام الله دون أي تدخل من البشر. ووجود نسخ من القرن الأول للإسلام يثبت مصداقية النص الحالي”. وفي حديثه عن القرآن والعلم الحديث يوضح خمسة نقاط أساسية يحيطنا بها علما ذلك النص الإلهي فيما يتعلق بالخليقة: “وجود ستة مراحل للخلق إجمالا ؛ تداخل مراحل خلق السماوات وخلق الأرض ؛ خلق الكون ابتداء من كتلة مبدئية واحدة تكون كتلة ستنقسم بعد ذلك ؛ تعدد السماوات والأرض ؛ وجود خليقة وسط بين السماوات والأرض” (صفحة 144).

ثم يؤكد في الخاتمة “إن كافة معطيات الكتاب المقدس لا يمكنها الثبات أمام العلم، بينما كافة ما ورد بالقرآن من معطيات مختلفة قد أثبتها العلم. وبالفعل، إن القرآن الكريم لا يتضمن أي تناقض بالنسبة للعلم، ولا يترك مكانا للأفكار الأسطورية الخاطئة أيام فترة التنزيل، ويتضمن معطيات لم يكتشفها العلم إلا في العصور الحديثة. وما من آية من آيات القرآن التي تصف ظواهر الطبيعة تناقض ما تم اكتشافه فعلا في العصر الحديث وتعلمناه بكل يقين”.

الترجمة :

هناك نقادا حتى فيما بين الذين ترجموا القرآن الكريم، يتبارون عامة بحثا عن “أخطاء” في نص القرآن، في محاولة منهم لإثبات أنه غير منزل من عند الله، ويأخذون مثلا لإثبات عدم مصداقيته آية ” وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ” (30/النازعات)، التي قمت بترجمتها بما معناه “والأرض بعد ذلك كورها كالبيضة” حتى وإن كانت كلمة “بيضة” لا توجد في النص العربي لهذه الآية. لكنها توجد ضمن المعاني اللغوية لهذه الكلمة. كما إن المعنى الإجمالي يحتم أخذ هذه الكلمة في الاعتبار. لأن المعنى يفرض نفسه إذا ما راعينا كل ما تتضمنه الآيات المتعلقة بخلق الأرض واستدارة شكلها ؛ ومختلف قواميس اللغة العربية ؛ وكل ما أورده المفسرون حول نفس الموضوع. مع ملاحظة أن اللغة العربية، رغم اتساع مفرداتها المبهر، تتضمن ـ مثلها مثل كل اللغات، كلمات لها أكثر من معنى. وبذلك فإن مضمون الموضوع هو الذي يعاون على الاختيار.

وفي القرآن الكريم نجد إن موضوع تكوين الأرض والسماوات تم تناوله بوضوح: فهناك آيات متعلقة بالخلق بصفة عامة، وبتكوين الأرض، والسماوات، والكواكب. وفيما يتعلق بسورة “النازعات”، التي تتضمن الآية التي استشهدت بها كمثال، فإن بها وصف جد معجز في إيجازه حول عملية الخلق: ” أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) ” (27ـ31 / النازعات).

ما تقوله القواميس :

فيما يتعلق بكلمتي “دحاها” و”طحاها” :

1 ـ “دحّ” : بسط ؛ وسّع ؛ دس في الأرض ؛ ضرب باليد منبسطة

“دحا” : يكور العجينة ؛ يكور رغيف الخبز ويبسطه ؛ يدحرج من مكانه

“دحية” : بيضة ، وجمعها “دحّ”

“الأدحى” : الحفرة التي تحفرها النعامة لتضع بيضها ؛ منزل من منازل القمر

“الدحية” : الريس ؛ قائد الجماعة ؛ رقصة عربية قديمة عند العرب

“الداح” : سوار مجدول

2 ـ “الطحو” : يدحرج من عالٍ

“طحا” : يسطح كالبساط المفرود ؛ أرض مسطحة

وقد تحدث كلا من الراوي وابن حزم وابن القيّم الجوزية وغيرهم عن بسط الأرض ومدّها على مدى البصر، وأن الله قد جعل حجمها ضخما بحيث لا يمكن رؤية نهايتها، وإن الكرة حين تكون ضخمة يكون كل جزء من سطحها عبارة عن مساحة منبسطة.

ومثلما رأينا عاليه، فإن كلمة “بيضة” هي أحد معاني “دحية” وجمعها “دحّ” ؛ و “دحا” يكور، يكور رغيف الخبز ويبسطه. وإذا أخذنا في الاعتبار كل الآيات التي تشير إلى استدارة الأرض وكرويتها، فأنه من الطبيعي أن أختار كلمة “بيضة” في ترجمتي بما أنها تمثل تماما الشكل الموصوف. من ناحية أخرى، وحتى يومنا هذا فما تزال تستخدم في الصعيد (جنوب مصر) كلمة “دحية” و “دحّ” للجمع ولا يقولون “بيض”. أي إن استخدام هذا المعنى المستدير لم يختف لغويا. وإن كان كل المترجمين حديثا إلى الفرنسية لم يختاروا كلمة “بيضة” فذلك ليس ذنبي أوليس مبررا للتقليل من شأن اختياري الذي أتحمل مسئوليته تماما، بما أنني أول من استخدم هذه العبارة في ترجمة هذه الآية إلى الفرنسية.

وهناك العديد من الآيات التي تتناول الكون وتتحدث أو تشير إلى استدارة الأرض دون ذكر استدارتها تحديدا من شدة وضوح معنى الاستدارة ضمنا. ومنها : ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَار وَيُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ” (29/لقمان) ؛ و” وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ” (37/ يس) ؛ و” وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  ” (3/ الرعد) ؛ و يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ” (44/ النور).

وفي آيات أخرى تبدوا استدارة الأرض أكثر وضوحا بفضل الفعل المستخدم، ومنها : ” خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ” (الآية) (5/ الزمر). وأحيانا يتم وصف العروج : ” يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” (4/ الحديد) ؛ و ” وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ” (14/ الحجر) ؛ ” تَعْرُج الْمَلَائِكَة وَالرُّوح إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة ” (4/ المعارج).

إن أفعال يولج، يغشى، يدخل، يكور، يعرج، كلها أفعال تحتاج إلى وقت ما لكى تتم فإن كانت الأرض مسطحة تماما لوجب وضع افعال من قبيل أضاء/أطفأ، أي ينتشر فعله في لا وقت على كل سطح الأرض. إلا إن كل هذه الأفعال المستخدمة بحاجة إلى زمن معيّن لكي يتم فعلها، وجميعها يثبت استدارة الأرض. وكذلك أفعال يكور أي يلف بحركة مستديرة؛ يعرج، وتعني الصعود إلى أعلى في خط منحني. وإن كانت الأرض مسطحة لكان استعمال هذه الأفعال لا معنى له.

فالسطح الوحيد الذي يمكن بسطه وتسطيحه ومده والسير عليه في جميع الاتجاهات من أي مكان دون أن نصطدم أو نسقط في نهايته هو سطح الكرة. وبخلاف دقة التعبير لكل هذه الكلمات، فإن فعلها لا يتم إلا إن كانت الأرض مستديرة وتدور على محورها لتحديد اليوم، وتدور حول الشمس لتحديد السنة، مثلما هو واضح في آيات أخرى. بل لقد أثبت العلم حديثا إن الفرق بين القطبين وبين خط الاستواء 43 كم. وهو ما يجعل الأرض بيضاوية الشكل يقينا وليست كروية فحسب.

شيء من التاريخ :

إن العلوم الحديثة في أوروبا تولدت في الثلث الأول من القرن السابع عشر. فمن إدانة جاليليو سنة 1633 عن طريق محاكم التفتيش التي كانت تحارب العلم لتبقي على فكرة إن الأرض مربعة ومسطحة (حزقيال 7 : 2)، حتى عام 1982 حينما أعرب البابا يوحنا بولس الثاني عن أسف الكنيسة حول قضية جاليليو وإدانته، مرّت ثلاثة قرون ونصف، بدأت الكنيسة خلالها تفقد السيطرة تدريجيا على تطور العلوم، وذلك لرفضها التأقلم مع النظريات الحديثة التي تناقض نصوصها.

وطوال تلك القرون التي كانت فيها أوروبا تغوص في ظلمات الجهل العلمي، حيث لم يمكنها معرفة التراث اليوناني إلا بفضل الجهد الضخم الذي قام به العلماء المسلمين الذين ترجموا وطوّروا الميراث العلمي اليوناني، ثم تمت ترجمة ذلك التراث من اللغة العربية إلى اللاتينية. وهذا التواجد المفصلي، بين الجهل والعلم، طوال ثمانية قرون، هو ما يحاول الغرب المسيحي المتعصب، قليل الاعتراف بالجميل، أن يطمس معالمه أو يقتلعها.. أو ليس من الأصوب والأكثر أمانة أن يتعلم قراءة القرآن الكريم بهدف فهمه وإدراك مختلف المعطيات الإلهية، خاصة بعد أن تم تحريف أو إبادة كافة نصوص الرسالتين التوحيديتين السابقتين ؟

وفي نهاية هذا البحث استشهد بأحد الأمناء المؤرخين الذي تجرأ وقال كلمة حق بلا أي تعصب : “أيا كانت الطريقة التي نحكم بها على التأثير الإسلامي، وأيا كان عنف ردود الأفعال ضده والطريقة الرامية إلى التخلص منه، لا يمكننا إنكار : إن أوروبا ما كانت لتستطيع أن تكون ما هي عليه الآن لو لم تكن قد عرفت الإسلام، فهو جزء من تراثها. والبحث عن آثار الإسلام في أوروبا يعني، بينما نبحث عن الآخر، فإننا نبحث أيضا عن أنفسنا”.. جان ـ بول رو، مقدمة كتابه : “الإسلام في أوروبا”

زينب عبد العزيز،    20  سبتمبر 2016

الأناجيل : نسيج من الرقع !

الأناجيل : نسيج من الرقع !

9.png

لا توجد أية عبارة يمكنها التعبير عن كلمة “الأناجيل” إلا: “نسيج من الرقع”.. نسيج من الرقع المخاطة بالخيط الأبيض، أي إن رقعها شديدة الوضوح. وسواء نظرنا إلى تلك النصوص نظرة تفصيلية أو إجمالية وإلى تاريخ تكوينها وتكوين عقائدها، فذلك لن يغيّر شيئا من هذا التشبيه لرقع رخيصة متراكمة على بعضها، تمت حياكتها بخيط أبيض، أي أنها رقع شديدة الوضوح. لأن النصوص التي تكونها عبارة عن نسيج من أشياء مستبعدة الحدوث، غير متناسقة، ومتناقضة.

إن يسوع لم يترك شيئا مكتوبا، وكان يتحدث بلغة شعبية أو بالأمثال. وبالتدريج، وبعد أكثر من خمسين عاما بدأ تجميع هذه الحكايات من الذاكرة، في كتاب، ووضعوا له عنوان: “العهد الجديد”. وقام قساوسة الكنيسة بإضافة النص الشفهي المتراكم الأقاصيص والأغراض، للنص الذي كتبوه، ليجعلوا منه قانون الإيمان الراسخ، الذي لا يمكن المساس به. واحتل التراث الشفهي والتجميع المكانة الأولى. وهكذا تكون التفسير الديني التقليدي أو التراثي، على أن يتقبله الأتباع صاغرين شاكرين وإلا تم اعتبارهم من الهراطقة، والنتيجة معروفة..

إن يسوع وحوارييه كانوا من اليهود، ولا يتحدثون سوى الآرامية، ومع ذلك فإن كافة الأصول المسيحية باللغة اليونانية، أي لا أصول أصلية لها إلا باللغة اليونانية، ثم تمت ترجمتها إلى اللاتينية ومنها إلى غيرها.. وقد قامت الكنيسة بمحو كل ما كان يعترض مسيرتها التحريفية الانتقائية، ثم تحايلت للاحتفاظ بما صاغه علماؤها أو قلفطوه، ليطلقوا عليه كلمة “ديناً”! وفيما يلي بعض النماذج:

النصوص :

في القرن الثالث تحديدا تدخلت السياسة بصورة فعالة أثناء تشكيل المسيحية التي كانوا يشقون طريقها بين جماعات متحاربة مخرّبة. فوفقا للقس آلبيوس ثيودوريه، “حوالي سنة 225 كانت هناك أكثر من مائتين صيغة مختلفة للأناجيل بين هذه الجماعات”.

وإذا افترضنا جدلا، كما يقترح البعض، إن نقص أو عدم وجود أي نص أصلي على الإطلاق بالآرامية، يرجع إلى أن يسوع كان يعلن لأتباعه عن اقتراب ملكوت الرب ونهاية العالم، وإن المحيطين به سيشهدونه في حياتهم ـ ولا زالوا ينتظرون تحقيق هذا الوعد حتى يومنا هذا، لكنه لا يبرر عملية التخلص الإجرامية من النصوص المحرجة. ويكفي الإشارة إلى ما قامت به كنيسة روما سنة 1415 وأبادت كل ما كان موجودا من مراجع ووثائق يهودية تعود للقرن الثاني، وأحرقت كتابين عبريين كانا يحتويان على اسم يسوع الحقيقي. ثم قام البابا إسكندر السادس بتحطيم كل نسخ التلمود عن طريق رئيس محاكم التفتيش، توما دي توركميدا (1420ـ 1498)، المسئول عن حرق ستة آلاف مخطوطة في مدينة سلمنك وحدها.

وفي حياة بولس الرسول، كانت المسيحية ـ التي لا يعرف عنها يسوع أي شيء، قد وُلدت وسط المعارك الطاحنة والانقسامات والمنازعات والعداوات وتبادل اللعنات بالحرمان. وقد وصل عدد هذه الفصائل إلى إثنين وعشرون ألفا في الإمبراطورية الرومانية، تلاشى أو انضم الكثير منها لتنتهي إلى 349 كنيسة مختلفة عقائديا، تمثل مجلس الكنائس العالمي الحالي.. إن تطور العقائد المسيحية على أيدي رجال الكهنوت والسلطة المستبدة للأباطرة الرومان في القرون الأولى، كانت تتم في نفس الوقت مع هذه المعارك الدائرة. ومنحت المجامع البابوية نفسها سلطة صياغة أو نسخ عقائد الإيمان. وكانت العقائد والمذاهب الأولى تتولد وهي تتناقض أو تكمل بعضها البعض وفقا لقرارات المجامع والآباء. وقد اعتادوا احتلال الصدارة فوق سلطة النصوص، ويكفي أن نطالع بعض النماذج:

العذرية الدائمة لمريم :

إن كافة العقائد المسيحية قائمة على فكرة الترجيح والاحتمال جدلا، إضافة إلى أخطاء الترجمة أو النقل من ديانات وعقائد وثنية موجودة أو سابقة. وقد قام فيلون السكندري، المرتبط بجماعة الآسينيين ومخترع كلمة “اللوغس”، في القرن الثاني، بإضافة كلمة “تجسد” ليتحدث عن “لوغس” سوف يأتي روحيا. وهو ما يتناقض مع ما تم فرضه فيما بعد، بقول إن يسوع سوف يعود بلحمه ودمه في نهاية الزمان ليحاكم العالم.

إن كافة عقائد الإيمان تقول ان يسوع قد وُلد من عذراء، وهي فكرة تعتمد على نص يشوع (7 : 14)، حيث إن الكلمة العبرية “امرأة شابة” قد تمت ترجمتها خطأً في النسخة السبعينية بكلمة “عذراء”. وقد قام چوڤيانوس بمعاتبة القديس چيروم لتركه هذا الخطأ في ترجمته الشهيرة التي أعاد فيها ترجمة وصياغة عدة ترجمات سابقة ليكوّن “الڤولجات” أو النص الرسمي للأناجيل (سبق وتناولت اعترافات القديس جيروم)، لكن يبدو أن “التزوير الورع من أجل مجد الله”، على حد قول القديس بولس، كان منتشرا ولا يزال.. إلا إن المجامع قد قامت بفرض العذرية الدائمة لمريم قبل وأثناء وبعد الحمل !!

وبينما تنص عقيدة الإيمان التي صاغها أوريچين، تقول، هي فقط، أنها حملت عن طريق الروح القدس! وظلت الآراء تتضارب حتى القرن الثالث ولم تكن قد استقرت هذه العقيدة بعد، وقام مجمع نيقية الأول سنة 325 بفرضها. ومن الطريف ملاحظة أنه بينما كان إغنسيوس وترتوليان وكيرولس القدسي يؤكدون إن تجسد يسوع تم بفعل الروح القدس ؛ فإن إيريني يقول إن مريم حملت من الآب ؛ أما چوستين وكليمون السكندري وأطنازيوس يؤكدون أنها حملت من اللوغس شخصيا ؛ بينما يقول أغسطين أنها حملت من الأقانيم الثلاثة المكونة للثالوث. وهو ما يعني ضمنا أن يسوع له دور في أبوة نفسه، لكى لا نقول شيئا عن أية علاقة غير شرعية !! أما وفقا لإنجيل يوحنا (1 : 13) فإن الله شخصيا هو الذي أنجب ابنه الوحيد، يسوع المسيح، بلا أم طبعا ! ووفقا لإنجيل لوقا فإن مريم كانت حامل عندما خطبها يوسف النجار، ووفقا لليهود فإن يسوع ابن الجندي الروماني ݒانتيرا.. وأيا كان الأمر فإن عبارة “أبوك وأنا كنا نبحث عنك” (3: 46) تستبعد فكرة أي ميلاد عذري، لكى لا نقول شيئا عن اخوته وأخواته المذكورين بوضوح في الأناجيل وفي أعمال الرسل.

تأليه يسوع :

في يوم 21 يونيو سنة 325 اجتمع أكثر من الفين أسقفا في مدينة نيقيه للفصل في عقيدة الإيمان الرسمية للمسيحية، والنصوص التي يجب الاحتفاظ بها، ومن هو الإله الذي يجب أن يتبعوه.. ويقول توني باشبي في كتابه “تحريف الكتاب المقدس”: “ان أولي محاولات اختيار ذلك الإله ترجع إلى سنة 210، حينما كان على الإمبراطور أن يختار بين يهوذا كريستوس أو أخيه التوأم ربى يسوع. أي إن يسوع أو الشخص الآخر، موضحا أنه حتى عام 325 لم يكن هناك للمسيحيين إله رسمي” ! إن هذه المتناقضات لا يمكن تفسيرها إلا بوجود طبقات من الكتابة المتتالية المتراكمة، دون حتى الاهتمام بالتوفيق بينها. أما القديس چيروم فيقول في المقدمة التي كتبها لترجمته وإعادة صياغة الأناجيل: “توجد ترجمات وأخطاء بعدد النسخ المنسوخة”، أي أنه لا حصر لها.

بدعة الثالوث :

إن يسوع لم يقل أبدا أنه ذو طبيعة إلهية أو ابن الله، ولم يقل شيئا عن الثالوث، ولم ينشئ أية كنيسة. كل ما طلبه من الأتباع هو أن يصلوا في غرفهم (متّى 6: 6 ـ 8)، وألا يقلدوا الوثنيين في لغوهم أو بذخ معابدهم. بل والأكثر من ذلك، نطالع أكثر من مرة إن يسوع نبي مقتدر، ثم قام علماء الكنيسة بتحويله إلى ممسوح ومسيح، ثم المسيح ثم ابن الله، ثم الله شخصيا. ثم بدأت مشكلة طبيعة واحدة أم طبيعتان (إلهية وبشرية)، ثم إرادة أو إرادتان، ثم جعلوه الإله الوحيد، المتفرد، في محاولة خبيثة لسد الباب أمام الإله الحقيقي الذي ليس لكثله شيء.

وقد اعترف بزيل القيصري (329ـ379) بأن عقيدة عبادة الروح القدس لا وجود لها في الكتاب المقدس، ورغمها، أقام العقيدة بلا أي تردد أو خجل، ليثبت المساواة بين الأقانيم الثلاثة المكونة للثالوث. وهذا المثال الذي يمثل نموذجا واضحا لكيفية إختلاق العقائد وفقا للطلب، وكأنها “دليڤري”، يمثل مرحلة حاسمة على طريق تعريف التشابه الكينوني بين الروح القدس والله والمسيح وفقا لما فرضه مجمع نيقيه الأول سنة 325، ثم أكدها مجمع القسطنطينية سنة 381 بتأكيد المساواة التامة بين الأقانيم الثلاثة..

زواج يسوع بالكنيسة :

إن عملية تزويج يسوع للكنيسة تعد من أكبر الفريات التي اقترفتها الكنيسة لترسيخ كيانها، والتي دفع كثير من المسيحيين حياتهم ثمنا لها، أو لإقرار معادلة حسابية معوجة تقول: يسوع = الكنيسة = الباباوات = الله. علما بأن الأبحاث الحديثة تؤكد أن يسوع كان متزوجا وله ذرية.

الروح القدس :

منذ ابتداع فكرة الروح القدس، جعلوه أولا هو ملهم كتابة نصوص الأناجيل، وذلك يعني ـ وفقا للحالة التي عليها الأناجيل حاليا، إن ذلك الروح القدس المسكين يخطئ، وأنه من أكبر الكذابين، ويتناقض في أقواله بصورة واضحة! إن الموسوعة البريطانية كانت تشير قديما إلى وجود أكثر من 150000 خطأ وتناقضا. وقد تضاعف هذا العدد بفضل أعمال النقد الحديثة. ولكي ندرك كم هذه الأخطاء ومدى تنوعها ومختلف مجالاتها، تكفي الإشارة إلى أنها تتعلق باللاهوت وبالجغرافيا والتاريخ والعادات والتقاليد وأسماء المدن أو الأماكن التي لم تكن موجودة آنذاك، بخلاف عمليات النقل من الأساطير والديانات الوثنية القائمة آنذاك. وتكفي الإشارة إلى الإفخارستيا المنقولة من أسطورة الإله ميترا، وهي عقيدة تحول الأتباع إلى فئة من آكلي لحوم البشر، إذ يجب عليهم عند تناولها أن يؤمنوا إيمانا راسخا أنهم يأكلون لحم المسيح ويشربون دمه..

وبعد أن تم فرض صفة الإلهام والتنزيل الإلهي لكل هذه المتناقضات في مجمع ترانت (1546)، وتأكيد أنها منزلة من عند الله، حتى على حساب اغتيال ملايين الأتباع لفرضها، قام مجمع الفاتيكان الثاني (1965)، باكتشاف إن هذه النصوص ليست إلهية، وقرر بلا أدنى حرج أو خجل، إن الذين كتبوها بشر، وأسماء أخرى غير تلك التي هي معروفة بها.. ومن أجل مداراة هذه التلاعب الجديد أضاف النص الفاتيكاني: “لكنها كتبت بوحي من الروح القدس”! وإن كان بها بعض “الأخطاء أو الأفكار البالية، فذلك لا يمنع من كونها دروس تعليمية إلهية”..

هروب العائلة المقدسة :

يمثل هروب العائلة المقدسة إلى مصر نموذجا حياً لعملية التحريف وكيفية الصياغة المزورة للمسيحية. وقد سبق أن تناولت موضوع  هروب العائلة المقدسة  ، لكنني أشير هنا اختصارا: إن متّى وحده هو الذي يتحدث عن هذا الهروب، بينما لوقا يقول عكس ذلك وأنهم عادوا إلى بلدهم. أي إن القصة وفقا لمتّى تقول: إن يوسف النجار قد حلم بملاك الرب ثلاث مرات: في المرة الأولى طلب منه الملاك أن يأخذ الطفل وأمه ويهرب إلى مصر؛ وفي المرة الثانية طلب منه الملاك أن يعود إلى الوطن؛ وفي الرؤية الثالثة قام الملاك بتعديل خط سير العودة بناء على اقتراح يوسف النجار.. وبعد أربعة قرون تقريبا، وفي محاولة مخادعة لتنصير القطر المصري، قام ثيوفيلس، بطريرك الإسكندرية، برؤية حلم تقص له فيه السيدة العذراء تفاصيل رحلة الهروب إلى مصر! وفي الصباح قام ثيوفيلس بتدوين رؤيته هذه في مذكراته الشخصية.. وبقدرة كنسية ألعوبانية، تم تحويل هذه الرؤيا إلى حقيقة، وقامت الكنيسة القبطية بفرض هذه الأحلام على مصر، ببناء سيناريو متكامل الأركان وآثار مختلقة لهذه الرحلة المزعومة، وفرضت رؤيتها على مصر والمصريين وعلى السياح السذج الذين لا زالوا يؤمنون بهذه الخدع والاحتيالات..

صلب يسوع :

من الثابت علميا إن عملية صلب يسوع منقولة بوضوح صارخ من الأساطير اليونانية القديمة وباتت تمثل أحد العناصر الأساسية للمسيحية. وهي في نفس الوقت دليل آخر على عمليات النقل والتلفيق الممتدة المأخوذة من الأساطير والديانات الوثنية القائمة آنذاك. فالصورة التي على اليسار تمثل صَلب الإله أورفيوس ديونيزيوس، الذي تم صلبه ودفنه ثلاثة أيام ثم بعث من الموت في اليوم الثالث، وفقا للأسطورة اليونانية. وعلى اليمين صورة ليسوع تؤكد بوضوح عملية النقل أو الترقيع في العقائد بالاختلاس.. بما إن النصوص الكنسية تقول إنه صُلب ودُفن ثلاثة أيام، ثم بُعث في اليوم الثالث.. وإن كانت مراجعتها تؤكد أنه أمضا نهارين وليلة واحدة..

وقد تكون الصورة صادمة للمسيحيين، أن يروا إلى أي مدى أساس عقيدتهم منقول ويثبت يقينا أنه بمثابة ترقيع لنصوص تلك العقيدة، وكيف إنها عبارة عن نسيج من الرقع المرقعة وتمت خياطتها بالخيط الأبيض، أي إن هذا الترقيع شديد الوضوح..

تبرأة اليهود :

قام مجمع الفاتيكان الثاني (1965)، دون خجل أو مراعاة لمشاعر أتباعه، وأدار ظهره لكل ما فرضه على مدى ألفى عام تقريبا، ضد اليهود واتهامهم بأنهم “قتلة الرب”، متناسيا تلك الصلوات التي تسبهم وتدعوا عليهم وتدعوهم للتنصير، وكل الخطابات الرسولية التي صاغها الباباوات ضدهم. بل وكل ما يحفظه التاريخ من حصار مفروض عليهم وأزياء وعلامات بعينها، وراح المجمع المبجل يبحث في أعماقه، كما قال رسميا في نصوصه، ليكتشف براءتهم فجأة !! والأدهى من ذلك، قام هذا المجمع بنفس الحركة الانقلابية، ليس على القرارات السابقة فحسب، فالقائمة جد طويلة كاشفة، تلك التي اتهموا بها اليهود طوال تلك القرون..

واكتشف المجمع المبجل في نفس الوقت إن هؤلاء اليهود هم “إخوته الأكبر منه”، ثم قام بتقديم الاعتذارات الرسمية عن كل ما عانوه، ثم بدأت التنازلات، ثم توالت التنازلات لتصيب صلب العقائد، ثم أصبح اليهود اليوم هم الذين يقودون الفاتيكان وكرسيه الرسولي..

خلاصة القول :

ما أكثر عدد الذين تركوا طاحونة التزوير تلك، التي ظلت ولا تزال تبدل وتعيد صياغة نصوصها، مما أدى إلى تلك العبارة الشهيرة في الغرب: “النزيف الصامت للكنيسة”، ورغمها، فهي لا تزال تستميت بكل الوسائل لفرض نفسها.. فعلى الرغم من كل ما تم كشفه من تاريخها، وكل ما به من متناقضات ونقل وتحريف، فإن الكنيسة المبجلة تواصل تقديم المسيحية على أنها الديانة المطلقة، المنزلة، الوحيدة التي يتقبلها “الله ـ يسوع” الذي اخترعته ظلما وغشاً، لتنصير العالم بأي ثمن وبأية وسيلة.. وهو مطلبها القديم الذي جدده مجمع الفاتيكان الثاني بضراوة تنفيذية.

وبعد تقديم تلك الشذرات القليلة، من غثاء جد كثير، فإن تاريخ المسيحية وكيفية تكوين عقائدها لا يسمح لها على الإطلاق بهذا الادعاء، لأنه تاريخ يدين كل علماؤها وقديسيها، بكل فرقهم، واختلافاتهم وتناقضاتهم وحروبهم، وهم يؤكدون اليوم ما سوف ينكرونه غدا.. فهل من ضرورة لإضافة: كيف يمكن لمثل هذه البنيان القائم على الأكاذيب، أن يقوم بشيطنة الإسلام والمسلمين ومحاولة اقتلاعهم لفرض نسيج مهلهل من الرقع المرقعة الشديدة الوضوح؟

زينب عبد العزيز

2 سبتمبر 2016

اغتيال هيباثيا

اغتيال هيباثيا

 

تحتفل الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية يوم 28 فبراير من كل عام بعيد القديس كيرولس، تمجيدا لذكراه ولأعماله “المجيدة” في كنيسة الإسكندرية وإسهامه في تكوين المسيحية.. ومن بين هذه الأعمال التي يحتفظ له بها التاريخ عن سنة 415، تدبير اغتيال هيباثيا، عالمة الرياضيات، متفردة الذكاء والعلم والجمال. فقد سحبها مرتزقة الرهبان، بقيادة بطرس المقرئ، من محفتها وهي عائدة من مدرستها إلى دارها، وسحلوها في الطريق إلى داخل كنيسة سيزاريون، التي يمارس فيها الأسقف كيرولس مهامه الدينية، حيث جردوها من ثيابها وراحوا يشبعونها ضربا، ثم بدأوا يسلخون جلدها بالأصداف الحادة إلى أن رحمها الله بالموت وهي تُسلخ، ثم قاموا بتقطيع جسدها وحملوا هذه القطع الآدمية الذبيحة إلى محرقة سينارون حيث التهمتها النيران..

وليست هذه القصة من أهوال قصص الرعب، وإنما هي قصة من قصص التاريخ الكنسي المعاش، وتصرفات المسيحيين الأوائل، في القرن الرابع والخامس الميلادي بمدينة الإسكندرية. وقد سجلها العديد من المؤرخين في ذلك الوقت، كما تناولها الأدباء. ومما نطالعه في كتاب “التاريخ العام للعلوم” (Histoire générale des Sciences, PUF, vol. 1, 1966): “كان المسيحيون الأوائل يكنون عداوة لا حدود لها للعلوم والفلسفة والآداب في تحديهم البغيض للثقافة الوثنية.. وفي بعض الأماكن الشديدة الحراك كالإسكندرية، قام التعصب المسيحي بتدمير مكتبة الإسكندرية والمتحف الشهير ليطفئ مجد مدينة العلم التي حاول التراث الوثني الحفاظ عليها حتى سنة 400 “. وكلمة وثني أو وثنية كانت تطلق أساساً آنذاك على كل ما هو ليس مسيحي.

وإن كانت هذه الفقرة تعطينا فكرة إجمالية عن المناخ العام في مدينة الإسكندرية، فقد تناول العديد من المؤرخين تفاصيل جريمة اغتيال هيباثيا وتناقلوها عبر الزمان، مرورا بالعديد من الأدباء الفرنسيين والإنجليز، وصولا إلى معاصرينا.. ففي عام 440 اتهم المؤرخ سقراط القسطنطيني الأسقف كيرولس بأنه دبّر مقتل هيباثيا، مضيفا: “وهو ما أضر بصورة كيرولس السكندري وكنيسة الإسكندرية؛ فمن المحرج أن يقوم من يزعمون انتمائهم للمسيح باغتيالات ومعارك وتصرفات همجية من هذا القبيل بوازع وتدبير من البطريرك. وقد وقع ذلك في شهر مارس أثناء فترة الصوم، في السنة الرابعة لتولي كيرولس منصبه، أيام الإدارة العاشرة لهونوريوس والسادسة لتيودوز” (التاريخ الكنسي سنة 440 المجلد 7، 15).

ومن كتّاب العصر الحديث نطالع ما كتبه أندريه شستانيول سنة 1976: “وفي سنة 415 اغتالها جنود كيرولس، الممرضون ـ الحانوتية، أتباع جمعية مسيحية للمرتزقة” (نهاية العالم القديم، باريس صفحة 61). أما كاثلين وايدر فتقول: “أن موتها يعنى نهاية الكلاسيكية القديمة” (نساء وفلاسفات في العالم اليوناني القديم، سنة 1986، صفحات 49 ـ 50).

أما الأسقف يوحنا النقياوي، في القرن السابع، فكتب قائلا: “في ذلك الوقت ظهرت امرأة فيلسوفة، وثنية، اسمها هيباثيا، تفرغت تماما للسحر، والإسطرلاب وأدوات الموسيقى. وقد سحرت كثير من الناس بمواهبها الشيطانية، وكان حاكم المدينة يبالغ في تكريمها، وبالفعل كانت قد سحرته بسحرها. فكف عن الذهاب إلى الكنيسة كما اعتاد. فتجمع عددا من رفاقه المؤمنين بقيادة بطرس المأمور ـ الذي كان من جميع النواحي مؤمنا كاملا بيسوع المسيح ـ وقرروا البحث عن هذه المرأة الوثنية التي سحرت شعب المدينة والحاكم بألاعيبها. وعندما علموا أين هي وجدوها جالسة فانتزعوها من مقعدها وسحلوها للكنيسة الكبرى المسماة سيزاريون. وكان ذلك أيام الصوم. فمزقوا ثيابها وسحلوها خلف عربة في شوارع المدينة حتى ماتت. فحملوها إلى منطقة اسمها سينارون وحرقوا جسدها. وكل الناس من حول البطريرك كيرولس أطلقوا عليه ” ثيوفيل الجديد” لأنه قد هدم آخر بقايا الوثنية في المدينة”.

والفرق واضح بين المؤرخين والأدباء الأمناء، وبين ما كتبه الأسقف يوحنا النقياوي الذي يعكس وجهة نظر الكنيسة بالنسبة للمرأة والعلم، وخاصة عباءة السحر. فكل من تناول حياة هيباثيا تناولها من ناحية نبوغها في علم الرياضيات والفلك، أما الأسقف يوحنا النقياوي، وإن كان أشار إلى بعض تفاصيل اغتيالها، فقد ألصق بها تهمة السحر. وهذه التهمة تعد من التهم الأساسية التي لجأت إليها الكنيسة واغتالت بحجتها أكثر من مائة ألف امرأة على مر العصور بزعم ممارستهن السحر أو العلم. وهي مرحلة امتدت من القرون الأولى لتكوين المسيحية حتى بعد القرون الوسطى. وكلمة “السحر” في الإطار الكنسي تعني في الواقع “العلم” بمختلف مجالاته، لأنه يكشف بالأدلة التلفيق والفريات التي كانت الكنيسة تنسجها وتفرضها على الأتباع.

مولد هيباثيا:

وُلدت هيباثيا سنة 370 م، وكانت في حوالي العاشرة من العمر حينما أعلن الإمبراطور تيودوز (347 ـ 395) المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية، وذلك بمرسوم تسالونيكي الصادر يوم 28 فبراير سنة 380. واضعا بذلك حدا لقرون من القلاقل وعدم الاستقرار الديني أو الصراع بين المسيحية الوليدة والديانات السابقة والمعاصرة لها. فقد اشتعلت الإمبراطورية بثورات متتالية للمسيحيين وتطلعهم للسيطرة والسيادة والتفرد. خاصة وإنهم كانوا في بداية تكوينهم عرضة للتنكيل، عندما كانت المواقف السياسية تقتضي ذلك. ومنها القلاقل التي حدثت أيام حريق روما يوم 19 يوليو سنة 64 م، عندما اعتبرهم الإمبراطور نيرون طائفة مشاكسة، شديدة التطلع والتأثير. فقتلهم وألقى عددا منهم لأسود السيرك.

نشأت هيباثيا وترعرعت في هذا المناخ المشحون وقد ارتدى الكنسيون رداء الكهنوت السلطوي ووصل بعضهم الى الخلط بين دورهم الديني والسلطة السياسية. أما في مدينة الإسكندرية فقد ازدادت الصراعات بين المصريين واليهود والمسيحيين. وقد تعلمت هيباثيا على يد والدها ثيون، عالم الرياضيات الكبير، الذي كان يقوم بالتدريس في متحف الإسكندرية. وفي مرحلة الشباب سافرت إلى اليونان، بلد أجدادها، لتدرس في الأكروبول على يد عالمة أخرى هي اسكليبيچني، أستاذة الفلسفة والعلوم الأفلاطونية الجديدة.

عادت هيباثيا من اليونان بعلمها الغزير ليتم تعيينها في المتحف أستاذة للرياضيات وعلوم الفلك. وتابعت كل المعارك بين مختلف التيارات الفكرية مع تزايد عداء الكنيسة للعلوم. فكيف يمكن للبشر أن يحاولوا فهم الكون؟ وما جدوى دراسته والوقوع في مخالب الشيطان خاصة وأن يسوع قد أكد في الأناجيل أن يوم الحساب قريب، بل سيشهده المعاصرون له؟ وهو ما أكده بولس أيضا. ففي نظر رجال الكنيسة آنذاك محاولة فهم الكون لا تعني فحسب الاقتراب من ملكوت الله وإنما هي عملية تكشف ما تقوم به من تعديل وتبديل في النصوص.

ابتعدت هيباثيا عن الصراعات الكنسية والسياسية، كما ابتعدت عن منصبها في المتحف لتفتح مدرستها التي سرعان ما عرفت النجاح الساحق وانضم اليها العديد من الطلاب من مختلف الأديان، ومنهم أورست حاكم الإسكندرية. مما زاد من اشتعال الصراعات لدرجة أن دبّر البطريرك كيرولس عملية اغتيال الحاكم. لكنه نجا منها وفر هاربا من الإسكندرية.

عداء الكنيسة لها:

في الفترة التي كانت فيها الكنيسة تحارب العلم وتفرض التعتيم لكيلا تبدأ عمليات المقارنة وكشف المتناقضات بين النصوص الكنسية والعلم والمنطق، كانت هيباثيا تكتب في الرياضيات وعلوم الفلك. ومنها تعليقا على أعمال ديوفانت وأبوللونيو. كما شغفت بعلم الفلك ودونت ملاحظاتها في كتاب “قوانين الفلك”. وتطرقت للفيزياء وقامت بتصنيع اسطرلاب وهيدروسكوب. وقد تألق نجمها كأستاذة في مدرسة الفلسفة بالإسكندرية. وأدى اهتمامها بالفلك إلى معاداة الكنيسة لها لأن تأييدها لاكتشافات من سبقوها، يدين بعض العقائد المسيحية. فقد كان العالِم أريستارك من ساموس (ـ 310 ـ230 ق م) قد طرح فكرة نظام كوني تدور فيه الأرض حول محورها وحول الشمس، على عكس ما كانت تفرضه الكنيسة من أن الأرض مسطحة وثابتة.

كما كانت هيباثيا تقوم بالبحث في قوانين تحرك الأرض حول الشمس وتحاول تخطي أبحاث من سبقوها.. وما كان يبدو أكثر من ذلك فُجرا، في نظر الكنيسة، أن هيباثيا كانت تحاول الدفاع عن أسس الحضارة القديمة والحفاظ عليها ضد الكنيسة وإلهها المستحدث. فتحول الصراع إلى عداء، أدى إلى قيام الاسقف كيرولس بتدبير أمر اغتيالها.

وهنا لا ننسى جاليليو الذي اعتقلته الكنيسة وأجبرته أن يتراجع عن نظرياته، راكعا على الأرض، أمام اثني عشرة كاردينالا، ثم برأته في القرن العشرين، حينما أقامت الأمم المتحدة احتفالية بمناسبة مروم 400 عاما على أولى الاكتشافات الفلكية. فكوّن الفاتيكان لجنة لتبرأة جاليليو، جاء في تقريرها يوم 2 فبراير 2009: “نحييّ اللجنة التي واتتها الشجاعة للاعتراف بأخطاء من حاكموا جاليليو، وأنهم لم يتمكنوا وقتها من فصل الدين عن علم الفلك، تصورا منهم، قطعا بالخطأ، أن ثورة كوبرنيك التي لم يكن قد تم إثباتها بعد يمكنها أن تهز أركان العقيدة الكاثوليكية وأنه من واجبهم منع تعاليمه”. كما قام الكرسي الرسولي بتنظيم مؤتمرا دوليا حول جاليليو، داخل إطار احتفالية الأمم المتحدة، وذلك في مدينة فلورنسا من 26 إلى 30 مايو 2009.

الأسقف كيرولس (376ـ 444):

اتناول سيرة الأسقف كيرولس هنا باقتضاب لتوضيح الدور الذي قام به في الإسكندرية وفي تكوين المسيحية التي كانت في مرحلة تخبط ومعارك منذ بداياتها. ويُعد الأسقف كيرولس من علماء الكنيسة الذين ساهموا في صياغة المسيحية في فترة من أعنف فتراتها. وهو ابن أخ الأسقف ثيوفيلس وخليفته. وقد اهتم مثله باقتلاع الوثنية من البلد، وذلك يعني كل ما هو ليس مسيحي. كما اقتلع اليهودية باعتبارها هرطقة من ضمن الهرطقات. ومن أشهر اسهاماته معارضة ومهاجمة أريوس وأتباعه، ومهاجمة الإنطاكيين، وإغلاق المعابد اليهودية وكنائس أتباع نوڤاسيان وأية جماعة مسيحية غير القبطية. وقد وضعته هذه الأفعال العنيفة في موقف معادي لأورست حاكم الإسكندرية.

ومن أشهر اسهاماته في تحديد توجه المسيحية اشتراكه في معركة النسطورية، التي تصارع فيها كلا من الأسقف كيرولس السكندري ونسطوريوس بطريرك القسطنطينية. والنسطورية هي المذهب المنادي بأن المسيح له طبيعتين إحداهما إلهية والأخرى بشرية. وقد ظلت هذه الخلافات سائدة حتى القرون الوسطى رغم حسمها في مجمع أفسوس سنة 431 الذي دعي إليه الإمبراطور تيودوز الثاني وأدان النسطورية وفرض اتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في السيد المسيح.

كما ساهم الأسقف كيرولس في حسم معركة الأريوسية والإطاحة بأريوس. فقد كان الأسقف أريوس السكندري هو وأتباعه يرفضون محاولات تأليه يسوع ومساواته بالله عز وجل. وقد عادى نستوريوس بطريرك القسطنطينية الذي كان يرفض إضفاء عبارة “أم الله” على السيدة مريم. فجعل مجمع أفسوس سنة 431 يدينه ويعزله، ونجح كيرولس أيضا بمساعدة ممنون الأفسوسي في إدانة نستوريوس وإعلان أن “مريم أم الله” وليست “أم يسوع” فحسب. وهكذا تنسج المسيحية..

ومن مهازل المؤسسة الكنسية أن يقوم البابا ليون الثالث عشر سنة 1882 بإضفاء لقب “قديس” على الأسقف كيرولس ولقب “دكتور” لكل ما أسهم به من قتل وتدمير للتراث المصري والعلوم. وإن خرجنا بشيء من هذه الشذرات، التي لا تقاس بما تم فعلا بعد ذلك عبر القرون، فهو التلاعب بالنصوص وبالتاريخ، وأن المسيحية قد تم نسجها فعلا بأيادي المتحكمين، عبر المجامع والمعارك، على مر العصور..

وعودة إلى هيباثيا، فيقول الباحث أنريكو ربيوني عن سنة 415، في كتابه المعنون “الصفحة السوداء للكنيسة”: “لقد أدى اغتيال هيباثيا إلى نقطة تحول في المجتمع: فبعد وفاتها غادر كثير من العلماء والفلاسفة مدينة الإسكندرية، إلى الهند وبلاد الفرس وكفّت الإسكندرية عن أن تكون أكبر مركز للتعليم والعلم في العالم القديم. ومنذ ذلك الوقت انحدر العلم في الغرب ولم يصل إلى مستوى يقارن بالإسكندرية قديما إلا مع فجر الثورة الصناعية. وفيما يتعلق بأعمال مدينة الإسكندرية في علوم الرياضيات والفيزياء والفلك، فقد حافظ عليها العرب والفرس والهند والصين. أما الغرب فقد غاص في عصر الظلمات ولم يخرج منها إلا بعد ألف عام تقريبا”..

وتظل هيباثيا رمزا..

رمزا للمرأة المثقفة، المبدعة، لتتألق شعلتها كعالمة متفردة حتى يومنا هذا.

زينب عبد العزيز

14 يوليو 2016

إلى نصارى مصر..

إلى نصارى مصر..

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

أوجه رجائي لكم باسم “نصارى مصر”، إذ أنه المسمى الوحيد الذي يشملكم جميعا بعد أن انتشرت المسيحية وتشعبت وانقسمت إلى 349 مذهبا، هي المكونة لمجلس الكنائس العامي الحالي. بل لا أعرف حتى إن كانت كل هذه المذاهب لها من يمثلها في مصر.. أكتب إليكم لأنني لاحظت تزايد التبشير في مصر، لا بصورة ممجوجة فحسب، وإنما بصورة متدنية، وشتائم وتجريح في الإسلام والمسلمين، خاصة السخرية من القرآن الكريم بأسلوب لا يليق بكم، فأنتم أصحاب الأخلاق الحميدة والمحبة.. وحيث أن المسلمين باتوا لا يقرأون، كما أنهم لا يفهمون الألغاز التي يسمعون عنها في المسيحية، فأرجو ألا تنسوا وأنتم تبشرونهم، أن تشرحوا لهم بالتفصيل أصول المسيحية كما هي، لكي يفهموا، على أمل أن يتنصروا عن قناعة وإيمان راسخ، وليس بالمغريات.. وفيما يلي بعض الشذرات التي أعرفها عن المسيحية علها تعاونكم على تبشير المسلمين، وإن كان المصطلح الأصح هو تنصيرهم.

أرجو ألا تنسوا توضيح أن السيد المسيح له ثلاثة تواريخ ميلاد في الأناجيل، وأن والده هو يوسف النجار أو ربنا أو الروح القدس، وأن له أسرة وإخوة وأخوات، وله أبناء عمومه مذكورين جميعهم بأسمائهم. وكانت الكنيسة تمنع ذكرهم حفاظا عليكم ولكيلا يهتز إيمانكم بأن ذلك الإله الذي فرضته كان يأكل ويشرب وأنه فرد في أسرة لا ترضى عنه، وتتهمه بأنه أكول وشرّيب خمر، الخ.. وأن نسبه يرجع إما إلى داوود أو إلى هالي، وأن الكنيسة لا تعرف عنه شيئا منذ مولده سوى أن أسرته هرّبته من اغتيال هيرود لكل الأطفال، مع العلم بأنها واقعة لم تحدث تاريخيا، وأنهم أتوا به إلى مصر، رغم أن إنجيل لوقا يقول في: (2: 22) إن أهله عادوا به إلى الناصرة، أي أنهم لم يطأوا أرض مصر.. لكن الوضع كما تعلمون، المسألة انتقائية، يأخذون ما يخدم اللحظة أو الظروف ويغضون الطرف عن الباقي، وكلها أناجيل..

كما أن الكنيسة لا تعرف عنه شيئا منذ هذه الوقعة، المتناقضة، سوى أنه وهو في العاشرة من العمر اختفى من المنزل ثلاثة أيام ليناقش علماء اليهود، وقالت له أمه حين عثرت عليه: “أقلقتني أنا وأبوك”، (وتقصد يوسف النجار وليس ربنا، لأن تأليه يسوع لم يكن قد تم اختراعه بعد).. أذكركم بها حتى لا تنسوها فهي مهمة في تسلسل الأحداث. ثم اختفى من الأناجيل ولا تعرف عنه الكنيسة أي شيء سوى حين عاد إلى الظهور وهو في الثلاثين من عمره، ليقوم بالتبشير لمدة سنة أو سنة ونصف أو ثلاثة سنوات، وأنه كان يعالج المرضى ويخرج الشياطين، وفقا لأي إنجيل تلتزمون به في سردكم هذه القصص، لأن لوقا يوضح في بداية إنجيله: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا”.. فراح يشرع هو أيضا في تأليف قصته اعتمادا على اليقين.. ولا يخفى عليكم ولع المسلمين بالقصص والحكاوي.. واغفروا لي إن نسيت بعض التفاصيل الهامة، فهي بجد من الكثرة حتى يصعب حصرها.

وأرجو ألا تنسوا ما تؤكده الأناجيل من ان أسرته لم تكن تؤمن به، وتعتبره معتوها أو به مسّ، على الرغم من أن بعض الناس رأت أنه نبي من الأنبياء، وتكرر ذلك عدة مرات في الأناجيل. بينما رأى اليهود أنه ثوري، وأنه ذهب ليفتح أورشليم ممطتيا حمارين في آن واحد. لذلك أدانوه وأقاموا له محاكمة خصيصا يوم السبت، وهو العطلة المقدسة لديهم والتي تحرّم عليهم القيام فيها بأية أعمال، ورغمها لقد خرجوا عن دينهم وجمعوا سبعين قاضيا في غرفة من بيوتهم الضيقة بالليل ليحاكموه ويغتالوه. وأن الحواريين أتباعه قد فروا هربا، بل منهم من أنكره! وبالفعل قتله اليهود وعلقوه على خشبة وفقا لعادتهم ووفقا لما هو وارد في الأناجيل وفي أعمال الرسل أيضا. فأرجو ألا تنسوا هذه الجزئية تحديدا، أنهم علقوه على خشبة لأن الصليب لم يكن قد تم اختراعه بعد، وإنما اخترعوه في القرن الرابع. لأن هذه التفاصيل تضفي مصداقية على كل ما تقولونه للمسلمين..

معذرة، كدت أنسى، أرجو ألا تغفلوا ذكر أن الكنيسة أكدت، في مجمع الفاتيكان الثاني (1965)، أن كل هذه الاختلافات والمتناقضات ليست متناقضات بالمعنى المفهوم وإنما هي اختلاف وجهات نظر، خاصة أنه ثبت لديها أنها ليست منزّلة من عند الله، وأن بها الصالح والطالح، وقد قام بكتابتها اسماء غير التي هي معروفة بأسمائهم، وأنها كُتبت بوحيّ من الروح القدس. وللعلم، لقد وصل عدد المتناقضات الثابتة والواردة في الموسوعة البريطانية هو 150000 تناقض. وقد تضاعف هذا العدد باكتشاف مخطوطة كاملة للإنجيل، معروفة باسم “إنجيل سيناء” وهي نسخة كاملة ترجع للقرن الرابع. أما “ندوة عيسى” التي أقيمت في معهد ويستار بأمريكا، وحضرها أكثر من مائتين عالم متخصص في اللاهوت والتاريخ واللغات القديمة، وبعد دراسة عدة سنوات أكدوا أن 82 % من الأقوال المنسوبة ليسوع لم يتفوّه بها، وأن 86 % من الأعمال المسندة إليه لم يقم بها.

وذلك لا يضير التبشير في شيء، حتى وإن كانت هناك متناقضات تبدو شديدة الوضوح مثل هذه الجُمل حول سبب مجيء يسوع إذ يقول متى (10: 34) “جاء يسوع ليلقى سيفا وليس سلاما” ؛ بينما يقول لوقا (12 : 49 – 53) “جاء يسوع ليلقى ناراً وانقساما” ؛ في الوقت الذي يؤكد فيه يوحنا (16 : 33) “جاء يسوع ليلقى سلاما” ! ؛ بينما يقول يسوع وفقا لإنجيل لوقا (19: 27): “أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فاْتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي” !عموما لقد تناولت موضوع المتناقضات في الأناجيل (1 و 2) ، لكي ترجعوا إليها إذا نسيتم أية تفاصيل لكى يكون تبشيركم المسلمين مقنعا منطقيا ومبني على أساس.

فاتني أن أوضح لكم في الفقرة السابقة، بمناسبة رسالة يسوع أو لماذا أرسل الرب ابنه في هذه الدنيا، إذ يقول يسوع: “لم أرسل إلا إلى خراف بين إسرائيل الضالة” (متّى 15: 23)، وللعلم، لقد قررها قبل ذلك في الإصحاح العاشر حينما كان يوصي حوارييه الاثني عشر ليرسلهم للتبشير قائلا: “إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (جملة 5 ـ 6). وهو ما يؤكد أن يسوع لم يأت إلا من أجل خراف بيت إسرائيل التي ضلت عن رسالة التوحيد، وليس لتنصير العالم كما تزعم الكنيسة الكبرى.

وهنا قد يبادركم أحد المسلمين المشاكسين قائلا “إن ما تقومون به من محاولة تبشيرنا منافي لقول السيد المسيح ويتعارض معه”! فأرجو ألا تهتزوا وإنما وضحوا له بكل ثقة أن مجمع الفاتيكان الثاني (1965) قد خرج عن تعاليم يسوع في أمور كثيرة، وأنه فرض تنصير العالم، واخترع بدعة الحوار بين الأديان لكسب الوقت حتى تتم عملية التبشير والتنصير، كما يجب أن تقولوا له بلا خجل أن ذلك المجمع قد فرض على كافة المسيحيين وعلى كافة الكنائس المحلية أن تساهم في عملية التبشير هذه، مع العلم بأنها أول مرة تصدر فيها الكنيسة الفاتيكانية قرارات خاصة بالمدنيين، مع غض الطرف طبعا عن إن مثل هذا القرار يضع الأقليات المسيحية والكنائس المحلية في موقف حرج، أو بمعنى أدق : في موقف الخيانة للبلد وللمسلمين، أينما كانوا، بما ان ولاءكم في هذه النقطة تحديدا أصبح للفاتيكان مثل كنيستكم، وبمثابة خيانة للمسلمين، ما علينا..

ولا تنسوا، رجاءً، أن تشرحوا للمسلمين كيف بدأت المسيحية في مصر فإنجيل يقول إن مرقص حضر إلى هنا وآخر يقول إنه ذهب إلى قبرص، وهو ما يؤكده أيضا بولس الرسول قائلا في أعمال الرسل: “فحصل بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر. وبرنابا أخذ مرقس وسافر إلى قبرص” (اع 15: 39) أي أن مرقس لم يحضر إلى مصر. وهو ما تؤكده أيضا الموسوعة الكاثوليكية وغيرها من المراجع.

ومن المهم توضيح أن المسيحية منذ بداياتها الأولى كانت منقسمة إلى العديد من الفرق المتناحرة، وكيف كانت هذه الفرق تحارب بعضها بعضا، حتى معركة أريوس السكندري الشهيرة، الذي كان رافضا فكرة المنادين بتأليه السيد المسيح، فقام الأسقف كيرولس بالوشاية به وقام الإمبراطور قسطنطين بجمع مجمعا في نيقية سنة 325 وتم فرض تأليه السيد المسيح. واستمرت الخلافات حول تحديد طبيعة السيد المسيح، وهل له طبيعة واحدة أم اثنين وربما ثلاثة، لا أذكر، فانعقد مجمع القسطنطينية سنة 381 ليفرض عقيدة الثالوث، وقام بتعديل عقيدة الإيمان ليثبت بها كل مسيحي في الدنيا أن الآب والابن والروح القدس متساوون في كل شيء تماما، أي ان الثلاثة واحد. وقد تأخذ منكم هذه الجزئية تحديدا بعض الوقت لشرحها للمسلمين، فهم إلى حد ما يجيدون الحساب، لكن لا تنسوا وتذكروا أن تأليه المسيح سنة 325، وفرض الثالوث سنة 381، وأن الثلاثة واحد.

ومن أهم النقاط التي يجب تناولها في شرح المسيحية للمسلمين، أن تتنبهوا لتوضيح ما قام به الأباطرة الرومان، فالدقة في سرد التواريخ والأحداث تضفي مصداقية تساعد على الإقناع. فقد كانت المسيحية تحارب في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وكانت كل بلد من بلدانها تتمسك بعقائدها. وكان المسيحيون الأوائل يتعرضون للاضطهاد حتى بدايات القرن الرابع وتسمى هذه الفترة “عصر الشهداء”. وعند تولي الإمبراطور قسطنطين الحكم سنة 312، أصدر في العام التالي مرسوما يسمح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم مع باقي العقائد السائدة. وعندما وصل تيودور إلى الحكم سنة 379 جعل الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية وأصدر المرسوم المعروف باسم “مرسوم تسالونيكي” يوم 28 فبراير سنة 380. كما أصدر به أوامره بإغلاق كافة المعابد ودور العبادة والكنائس غير المسيحية الكاثوليكية. وبدأت المسيحية مشوارها بهدم كافة المعابد والمكتبات وما لم تتمكن من هدمه طمست معالمه وغطته برسومات مسيحية، مثلما حدث في معبد أبو عودة في النوبة المصرية وغيره كثير..

بقيت نقطة، لا أعرف إن كان المسلمون سيتقبلونها، وهي موضوع الإفخارستيا، أو المناولة على ما أعتقد. وهي الإيمان بأن جسد المسيح ودمه يوجدا بالفعل في قطعة البسكوت وكأس النبيذ الذي يتعيّن على من يأكلهم أن يؤمن إيمانا قاطعا بأنه “يأكل لحم المسيح ويشرب دمه”.. فإن باغتكم أحد المسلمين بأنه يقرف أو لا يمكنه تصور أن يتحول إلى أحد آكلي البشر، لا تنزعجوا وافعلوا كما تفعل الكنيسة وخاصة الفاتيكان في إفريقيا، إذ أنهم يقبلون بتعدد الزوجات، وأمور أخرى كثيرة في سبيل تنصيرهم.. وهناك مخرج آخر، بما أن هذه الإفخارستيا يؤمن بها الكاثوليك والأرثوذكس، بينما يؤكد البروتستانت أنه مجرد وجود روحي أو معنوي، وفقا لمذهب لوثر، فالمخارج متعددة للخروج من هذا المأزق. وإن شئتم الحق، يمكنكم مراجعة نصوص المجامع وكل ما تتضمنه من معارك وقرارات حول هذه العقيدة التي لم تستقر ببساطة علها تساعدكم..

ولا أنصح بأن تحدثوا المسلمين في موضوع قيامة يسوع أو أنه قد قهر الموت، ففي واقع الأمر لن يقبل بها أي عاقل منهم، فهم يؤمنون بأن الموت علينا حق، وأن الحياة والموت وجهان لعملة واحدة. كما أنه لن يقبلها أي طبيب مسلم، فهو يعلم يقينا أن العقل البشري لا يمكن أن يعود إلى الحياة بعد موته تماما ولمدة ثلاثة أيام متتالية. وهي المدة التي تؤكدها الأناجيل. كما أن موضوع قيامة يسوع مكتوب هو أيضا بصيغ مختلفة في الأناجيل الأربعة المتواترة، ولا أقول شيئا عن المُحجبة أو الأبوكريفا. خاصة ذلك الإنجيل الذي يتحدث عن النسوة اللائي ذهبن إلى القبر صباحا ووجدنه خاليا، فارتعبن وخفن إلى درجة أنه لم يقلن لأي أحد أي شيء عما شاهدوه. ويمكنكم مراجعة ذلك خاصة في الطبعات القديمة للأناجيل، إذ أنها تتبدل تقريبا من طبعة إلى طبعة.

وإن كان لي كلمة أخيرة أضيفها، فأوجهها للمسلمين:

أمانة في رقبة كل مسلم ومسلمة، بعد قراءة هذه الرسالة مشاركتها لجميع أصدقائكم ومعارفكم، بكل ما لديكم من وسائل اتصال، علها تعاون إخواننا النصارى في المهمة الملقاة على عاتقهم !

زينب عبد العزيز

أول يوليو 2016

 

حوار البابا فرنسيس!

 

66

 

لم يحدث من قبل أن أثار حوارا للبابا فرنسيس مثل هذا الكمّ من التعليقات فور نشر حديثه مع جريدة “لا كروا” الكاثوليكية الفرنسية. وليس هذا القدر من التعليقات ناجما عن القضايا المأخوذة من أحداث الساعة أو ما يدور حاليا فحسب، غير أن معظمها دار حول المهاجرين والعلمانية في فرنسا. إلا أن اختيار هذا التوقيت بالذات، والقضايا غير المعلنة للأحداث، وموقف هذا البابا المتلاعب الماكر، على حد ما وصف نفسه ذات يوم، فقد تناقض في هذا الحوار مع نفسه في عدد من القضايا التي طرحها، وإن كان ذلك يمثل جزءا من لعبته ومن تقنية حواره مع الناس..

إن الموضوعات التي أراد البابا أن يطرحها في هذا الحوار تتعلق بالجذور المسيحية لأوروبا، وهجرة الفارين من حرب سوريا وغيرها، والإسلام، والعلمانية، وفرنسا، وفضائح الشواذ جنسيا. ولقد اختارت إدارة الجريدة تسع جُمل أساسية من حواره ونشرتها على حدة كتوجيه للقارئ. ونظرا لكل ما تضمنه اتساع هذا الحوار من حقائق غير معلنة، فقد اخترت أربع نقاط لأتناولها بشيء من التفصيل: الجذور المسيحية لأوروبا؛ العلمانية؛ المهاجرين؛ الإسلام.

الجذور المسيحية لأوروبا:

من الغريب أن نرى البابا يعرب عن بعض التحفظات فيما يتعلق بالجذور المسيحية لأوروبا قائلا: “يجب أن نتحدث عن جذور متعددة لأن هناك الكثير. بمعنى أنه حين أسمع من يتحدث عن الجذور المسيحية لأوروبا أتشكك أحيانا في المعنى الذي قد يكون به نزعة انتصارية أو انتقاميه. وذلك يتحول إلى نزعة استعمارية”!

ومعروف أن الاتحاد الأوروبي يتضمن 28 دولة (أعضاء) بما فيهم فرنسا، وكلها بلدان لها جذور متنوعة، خاصة إسلامية. فلا يمكننا ابداً أن نغفل ثمانية قرون من المساهمة الحضارية المسلمة خاصة في فرنسا واسبانيا وإيطاليا. فذلك يعني تحريف التاريخ المعاش. كما أن التحدث بإصرار عن “الجذور المسيحية” لفرنسا فقط فذلك يعني العنصرية والاستعمارية ـ كما يقول البابا ـ وخاصة تلك النزعة الانتصارية الانتقامية التي غرستها الكنيسة في ذاكرة أتباعها. ألا تصر فرنسا لليوم على الاحتفاظ بمستعمرات لا حق لها فيها ولا معنى لوجودها فيها سوى لنهب خيراتها؟ الا تواصل فرنسا نفس النهج في إفريقيا وخاصة في الجزائر؟ ومع ذلك فلم يكن الحديث يدور إلا حول الجذور المسيحية، وهذا التجديد الذي احدثه البابا بالإشارة إلى عدة جذور لأوروبا يشير إلى تغيير قادم..

أما الربط بين الخدمة المسيحية المتعلقة بغسل الأقدام واستضافة المهاجرين، فذلك لا يكشف إلا عن الترتيب المسبق لكل أفعال البابا فرنسيس. وهو ما يفسر لماذا قام منذ انتخابه بالقيام تدريجيا بإدخال المسلمين في هذا الطقس الذي هو في غير موضعه، لكيلا أقول شيئا عن هجومه المرير ضد الإسلام، ثم فجأة، هذا الانقلاب المبالغ فيه والذي يكشف عن وجود تخطيط يتم تنفيذه في وضح النهار وفي الخفاء. فواقعة اصطحابه اثني عشرة مهاجرا مسلما على نفس متن الطائرة التي اقلته وهو عائد من مدينة ليزبوس، يدور في نفس المعنى: انها مقدمة لتغيير كبير يتم الاعداد له، تغيير كبير سيتم فرضه على الجميع..

العلمانية الفرنسية:

“على فرنسا أن تقوم بخطوة إلى الأمام من حيث العلمانية لتقبل بالانفتاح على أن يكون التسامي من حق الجميع” ؛ “أعتقد أن العلمانية مصحوبة بقانون راسخ يضمن حرية العقيدة هو بمثابة إطار للتقدم” ؛ “إلا إن كل شخص يجب أن يكون له حرية التعبير عن إيمانه الشخصي. فإن كانت امرأة مسلمة تود ارتداء الحجاب، يجب أن يمكنها فعل ذلك”!! يا له من انقلاب شاسع بين هذه العبارات جيدة الحبكة، وكل المواقف السابقة للفاتيكان والكنيسة منذ بداية انتشار الإسلام!

فطوال قرون عدة تقوم الكنيسة باتهام الإسلام وسبّه ومحاربته وشيطنته. ولم يكن بلا سبب أن قامت جريدة “لو موند ديبلوماتيك” الفرنسية بوصف البابا يوحنا بولس الثاني ذات يوم قائلة: “أنه يسير على الإسلام بوابور ظلط”! فلا بد حقا من وجود سبب قهري أدى إلى أن تقوم نفس هذه الكنيسة بمثل هذا التحول المذهل. وهو تحول قد أفزع الفرنسيين المسيحيين الذين استقوا كل ما جعلتهم الكنيسة يتجرعونه، خاصة طوال العقود الأخيرة، بتضافر مع الحكومات والسياسيين والإعلام لشيطنة الإسلام..

من ناحية أخرى، فإن العلمانية الفرنسية، منذ أوائل بداياتها، وهي مزدوجة الوجه. ويكفي أن نقول إنه لكي تتمكن فرنسا من الإعلان عن علمنيتها رسميا، فهي تتحمل ثلثا تكاليف البعثات التبشيرية في فرنسا أو في العالم، لكيلا أقول شيئا عن المصاريف السرية للقوانين المالية. ويكفي أن نرى علاقة الدولة العلمانية الفرنسية بالكنيسة: فرئيس فرنسا يجب أن يكون رئيس كنيسة لاتران بإيطاليا، وكل العطلات الرسمية تقريبا هي مناسبات دينية، والمساحة المتاحة للتعبير عن التديّن لا يمكن إغفالها: فتكفي الإشارة إلى إقامة تمثالا للبابا يوحنا بولس الثاني في حيّ مونمارتر، أو الحلقات الدينية النقاشية العلنية التي تقام في الميادين، أو ابتداع اليوم العالمي للشباب والتعاون على إقامته سنويا، الخ. لذلك فهو من الغريب حقا أن نرى البابا فرنسيس يقوم بالملاحظة التالية لفرنسا: “إن الانتقاد البسيط الذي أوجهه لفرنسا بهذا الصدد هو أنها تبالغ في علمنيتها”. أليس هو وكل من سبقوه في المنصب هم الذين فرضوا عليها ذلك الشكل العلماني المتعصب الذي ينتقضه؟

المهجّرون:

ردا على سؤال مندوب الجريدة عما إن كانت أوروبا يمكنها استيعاب ذلك الكم من المهاجرين، قال البابا: “إن السؤال الأساس الذي علينا أن نطرحه هو لماذا يوجد اليوم ذلك الكم من المهاجرين؟ فعندما كنت في مدينة لمبدوسا، منذ ثلاث سنوات، كانت تلك الظاهرة في بدايتها”.

وكأن البابا لا يعرف أسباب الحروب الدائرة حاليا في الشرق الأوسط، التي لا تعود إلى ثلاث سنوات فحسب، ولكن منذ ذلك القرار الشيطاني الذي أدى إلى التاريخ المشئوم: 9.11.2001، لأن الحرب على الإرهاب هي صناعة متعمّدة، انها حرب من أجل الغزو والانتصار، مثلما تعد العولمة هي الطريق الأخير نحو النظام العالمي الجديد. ولا يخرج هذا الموقف من جانب البابا عن كونه يقوم بدور الساذج لعلمه أن سبب هذه الحروب العنصرية الهدّامة المُغتصبة لخيرات البلدان التي يدمرونها، تدور بالاتفاق مع الصهاينة والولايات المتحدة والفاتيكان، وبالتعاون مع كبار مموّلي السلاح، وليست بسبب تجار السلاح أو المهربون!

وأن نسمعه يقول: “إن كان هناك ذلك الكمّ من البطالة فذلك يرجع إلى قلة الاستثمار الذي يمكنه إتاحة فرص عمل، كما في إفريقيا مثلا. فكم هي بحاجة إلى ذلك”. ولكي نرى مدى هذا النفاق، تكفي مطالعة ما كتبته حول سينودس إفريقيا في مقال بعنوان: “تنصير إفريقيا وإفقارها“، سنة 2009، لنرى إلى أي مدى يمد الفاتيكان أنيابه ليمتص الثروات الطبيعية، التي لا تزال مدفونة، لتلك القارة الشديدة الثراء، الشديدة البؤس، مع القيام بتنصيرها.

ثم عاد مرة أخرى إلى المهاجرين، ورأى البابا أن أسوأ استقبال لهؤلاء المرحّلون هو أن يوضعوا في أحياء مغلقة، مثلما فعل الغرب مع من يطلقون عليهم الآن “إخواننا الأكبر منّا”، فذلك يعني ترك الحرية للمهاجرين، الذين تم تهجيرهم بلؤم شديد، إمكانية الحفاظ على هويتهم وإيمانهم، بينما العمل على “استيعابهم” وتذويبهم في المجتمع، فذلك يعني تحويلهم وجعلهم جزء من تلك الحضارة المسيحية العنصرية، التي هي غريبة عليهم، والعمل على تغيير عقليتهم وتصرفاتهم وإعادة تشكيلهم وفقا لمفهوم المستعمر الغازي وإدخالهم في أجهزة الدولة وأنماطها، أو كما يقول موريس باريس، وهو من قادة الحركة الوطنية في مطلع القرن الماضي: “في مثل هذه المشكلة الشديدة التعقيد لموقف الأجانب في فرنسا، هناك فكرتين علينا تنفيذهما: حماية مواطنينا ضد الغزو الأجنبي، واستيعاب الأجانب الذين يعيشون على أرضنا” ! لكن هنا، لا يتعلق الوضع “بالغزو” مثلما وصفهم البابا منذ عدة أسابيع، ولكن نحن بصدد عملية تهجير مخططة، كانت بمثابة عملية اقتصادية مربحة أتت بستة مليارات دولار على التجار المهربون الحقيقيين الذين كانوا خلف هذا المأساة.

على أية حال، فقد بدأت عملية “استيعابهم” فعلا، ليس بالهجوم الذي قام به فرانسوا كوبيه كحرب صليبية جديدة ضد الحجاب في الأماكن العامة في فرنسا، ولكن ما تقوم به المانيا هو أسرع بكثير: فبعد دروس التربية المدنية/الوطنية وطباعة منشورات حول الحياة في المجتمع الغربي، قد تم اصدار نشرة للتربية الجنسية والعلاقات الحميمة للمهاجرين! إن المركز الفيدرالي الألماني للتربية الصحية قد أصدر نشرة بعنوان “زانزو”، بثلاثة عشر لغة. ومن الواضح أنه عمّا قليل سنرى تطبيق نظرية الچندر وكل الألاعيب الشيطانية المنفلتة، المعتمدة رسميا في الدول الأوروبية، أي في الدول “المتحضّرة”! ومن ناحية أخرى فقد بدأت عملية تنصيرهم فعلا.

كل هذه المبادرات تجعل المرء يتحيّر وتملأه المرارة والقرف من هذه المجتمعات التي تُقدم لنا على أنها المثال الذي يجب أن يُحتذى والنمط الذي يجب أن تتشكل عليه البلدان التي استعمروها ونهبوها وأفقروها وأفلسوها ثم أطلقوا عليها “العالم الثالث”..

ويعود البابا إلى ضرورة استيعاب المهجرين قائلا: “إن هذا الاستيعاب ضروري اليوم حيث أن أوروبا تعاني من مشكلة خطيرة في نقص المواليد”. وها هي كلمة صريحة تفلت منه! الأمر الذي يكشف عن الوجوه الحقيقية لهذه المأساة المعدّة مسبقا والتي تم تنفيذها بدقة. فأوروبا بحاجة إلى أيدي عاملة، والكنيسة بحاجة إلى زيادة عدد أتباعها.. رغم فرضها على الأتباع ألا يقل الإنجاب عن ثلاثة أطفال..

وهناك عبارة أخرى كاشفة، تنهي مقطع الهجرة، عندما أعلن البابا قائلا: “إن السوق الحر تماما لا يعمل بكفاءة. إن السوق في حد ذاته شيء طيب لكنه بحاجة إلى سند، إلى طرف آخر، إلى دولة للسيطرة عليه لتوازنه”. وهي جملة لا معنى لها هنا بما ان الأسواق بعامة تتبع الدولة أو تتم وتمر عن طريقها. إلا إن كان يشير إلى تلك الحكومة العليا، التي ستسود العالم عما قريب، في نظام جديد..

الخوف من الإسلام:

السؤال المتعلق بالإسلام والذي كان لا بد وأن يُطرح في هذا الحوار، تلقّى نفس الرد المراوغ الذي يشير إلى جزء من الحقيقة أو من الواقع، لكنها اجابة لها مغزاها: “لا اعتقد أن هناك اليوم مَن يخشى الإسلام، في حد ذاته، لكن داعش وحربها للانتصار مأخوذة جزئيا من الإسلام”.

وهذا الرد من قِبل شخص يعلم تماما خبايا اللعبة، وما فعلته مؤسسته، فإن هذه العبارة “لا أعتقد أن هناك اليوم من يخشى الإسلام” التي تنغرس في قلب كل قارئ مسلم كالخنجر، بمثابة الدليل القاطع على كل الحرب الشيطانية التي مارستها الكنيسة ومحركيها ضد الإسلام والمسلمين، لأنها تصرفت بصورة أبشع مما يقوم به تنظيم داعش الذي اختلقوه وموّلوه ووجّهوه.. أنها قرون ممتدة من الحرب والأكاذيب والعداوة من أجل اقتلاع الإسلام الذي لم يتم تنزيله من رب العالمين إلا لتصويب كل ما تم من تحريف في نصوص وعقائد الرسالتين السابقتين. فالتوراة قد أبيدت مع هدم المعبد سنة 70 م، وأعيدت كتابتها من الذاكرة فيما بعد بكثير. أي أنه ليس بها أي شيء منزّل. والأناجيل لا يوجد لها أي نص أصلي، فكل أصولها الموجودة باليونانية، وهي لغة لم يكن يسوع أو الحواريين يعلمونها. وقد تم نسجها عبر المجامع والباباوات. أي انها عبارة عن أكاذيب متراصة. لذلك أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم كآخر بلاغ إلهي لكافة البشر.

وردا على سؤال: “الكنيسة في فرنسا تعاني من نقص حاد في القساوسة، فكيف يمكنها اليوم أن تعمل بذلك العدد القليل منهم؟ “. ويأتي الرد بنفس الأسلوب الماكر، فقد ذكر البابا نموذج كوريا والصين، و”أن الروح القدس هو الذي يقوم بالتبشير من خلال البشر”! وأغفل ذكر قرار مجمع الفاتيكان الثاني الذي أصدر لأول مرة في التاريخ قرارات تتعلق بالمدنيين وبالكنائس المحلية، وأنه عليهم، بالأمر، المشاركة في عمليات التبشير أينما كانوا. لذلك لا يعني البابا أن يكون لديه العدد الكافي من القساوسة، فكل المسيحيين في العالم، مفروض عليهم المساهمة في التبشير منذ ذلك المجمع.

خلاصة الحوار:

إن أول ملاحظة نخرج بها من هذا الحوار هو تغيير واضح في بعض عبارات البابا فرنسيس، وتغيير مواقفه ولو ظاهريا، وتسطيحه لكثير من الأمور. الأمر الذي أزعج العديد من الأتباع خاصة في فرنسا. فكل ذلك التخطيط ستتضح أبعاده في نهاية هذا الشهر الحالي، بعد اجتماع الأستانا، في كزاخستان، حيث سيلتقي كل زعماء الأديان والسياسة في العالم. وهذا اللقاء سيسبقه، عشية الافتتاح، اجتماع آخر حول الإرهاب في العالم. وكل ذلك يتفق مع جملة قالها أوباما مؤخرا، وهو يتحدث عن الأحداث القادمة وضرورة منح: “السلطة المطلقة لحكومة عالمية لإدارة شئون العالم، وشعوب محدودة التفكير وغير قادرة على إدارة شئونها”..

زينب عبد العزيز

21 مايو 2016

 

http://saaid.net/daeyat/zainab/27.htm

 

 

الصليب وحكاياته..

الصليب وحكاياته..

ثلاثة أشكال على اليمين واليسار يبدو جزع النخلة وفي الوسط جزع شجرة

 

في القرن السادس عشر كتب إيراسْم (1536ـ1469)، عالم اللاهوت الكاثوليكي، منتقدا ما يتعلق بكمّ البقايا المقدسة التي تجوب بلدان أوروبا أو تملأ متاحفها، مشيرا بسخرية إلى عدد البواخر التي يمكن بنائها بخشب الصليب المستخدم في صلب المسيح! بينما قال كالڤين (1509ـ1564)، عالم اللاهوت البروتستانتي، في بحثه عن البقايا المقدسة، سنة 1543، “إن جمعنا كل ما هو موجود من خشب الصليب الحقيقي لوجدنا حمولة باخرة ضخمة. يا لها من جسارة، يملئون الأرض بقطع من الخشب لا يقوى ثلاثمائة رجل على حملها” !.. بل والأدهى من ذلك، لقد تم إنشاء متحف خاص يسمى “سْتاوروتيك” يضم أجزاء من الصليب المقدس “الأصلي”، بخلاف ما هو موجود في الكنائس والأديرة.. كما أصبحت مختلف هذه البقايا المقدسة أحد العناصر المؤسسة للمسيحية ابتداءً من القرن الرابع.

وأول ما تجدر الإشارة إليه هو: اختفاء كلمة “الخشبة” التي تم تعليق يسوع عليها، وهي الكلمة التي لا تزال موجودة في الأناجيل ولم يتم حذفها مثل الكثير غيرها (اع 5: 30 ؛ اع 10 : 39 ؛ أع 13 : 29 ؛ غ 3 : 13). ولعل ذلك يرجع إلى استتباب ورسوخ كلمة “الصليب” التي تم فرضها في القرن الرابع، حتى أن الكنسيين قد نسوا أو تناسوا حقيقة وجود “الخشبة” التي عُلق عليها المسيح.. وأكبر دليل على مصداقية “التعليق على الخشبة”، بخلاف أنها كانت تقريبا الوسيلة الوحيدة لتعذيب الشخص حتى الموت أيام الرومان، سواء بالتعليق على جزع شجرة أو جزع نخلة، فهي مذكورة في القرآن الكريم عند الحديث عن موسى وفرعون “.. ولأصلبنكم في جذوع النخل..” (71 /طه)، أي على جزوع النخل ؛ أما في سورة النساء (157) فيقول المولى عز وجل عن السيد المسيح: “.. وما صلبوه وما قتلوه..”

ولكي ندرك حقيقة كيفية تكوين المسيحية باختصار شديد: أنه تم تأليف وتكوين العقيدة بعد “صلب” المسيح كما يقولون، وحتى القرن الرابع، ثم راحوا يختلقوا الأدلة لإثبات صحة ما تم تأليفه ومصداقيته، بل وتأريخه، اعتمادا على اختلاق ما أطلقوا عليه “البقايا المقدسة”. فبدأت لعبة القصص والأساطير الدينية التي تثبته وتواكبه تتولد وتتكاثر.. أو على حد قول الريحاني : “شيء لزوم الشيء” !..

قصة “الصليب الأصلي”:

المعروف تاريخيا: أنه قد تم تبني الصليب كرمز للمسيحية في القرن الرابع بأمر من الإمبراطور قسطنطين، كما يرجع اختراع العثور على “الصليب الأصلي” إلى والدته هيلينا، أو هكذا تقول الكتب. وبدأت عبادة الصليب في القرن الرابع والخامس، وابتداء من القرن السادس تحول الصليب الى رمز للمسيح.

ويقول وُسيبوس القيصري أن الأسقف مقار هو الذي طالب بالبحث عن مدفن يسوع والصليب الذي صلب عليه، وذلك أثناء انعقاد مجمع نيقيه الأول سنة 325، الذي تم فيه تأليه السيد المسيح، كدليل مادي لإثبات تفاصيل الديانة الجديدة. وهنا ينبثق السؤال الساذج: ما الذي ذكرهم بالمسيح بعد أربعة قرون من صلبه أو من صعوده ليجلس عن يمين ربه كما يقولون ؟! ويقال إن والدة قسطنطين قد طلبت أن تحج إلى المكان الذي صلب فيه يسوع لتبحث عن قبره وصليبه. وقد عاونها كلا من الأسقف مقار والروح القدس وسكان مدينة القدس، ولدهشتها تم اكتشاف ثلاثة صلبان، وكأنها لا تعلم أن الأناجيل تقول إنه صُلب بين لصين ! “صليب” يسوع و”الصليبان” اللذان عُلق عليهما اللصان المرافقان له. واحتار الجميع، ايهما صليب يسوع ؟! ثم وقفت حائرة وهي تتساءل: “أين المسامير الثلاثة التي دقوه بها على الصليب؟ ولدهشتها أشار لها الروح القدس.. “فوجدتها تلمع ببريق كالذهب”.. فاندلعت معجزة جديدة، غير عابئة بخاصية الحديد والصدأ والأربعة قرون من الزمن..

وتقول احدى القصص أنهم أخذوا الصلبان الثلاثة وذهبوا بها إلى مريضة في حالة احتضار، وقربوا منها أول صليب، ولم تشعر بشيء وظلت في حالة موات، فقربوا منها الصليب الثاني ولم تشعر بشيء، فقربوا منها الصليب الثالث وهم في غاية القلق، فنهضت من الفراش، بكامل صحتها وعافيتها، فأدركوا على الفور أنه صليب يسوع !! وتقول قصة أخرى “أنهم أحضروا المريضة التي تحتضر على نقّالة إلى مكان الصلبان”.. وباقي التفاصيل واحدة.

وابتداء من القرن الخامس تم استبعاد دور الأسقف مقار ليتم الاعتماد على قصة أن والدة قسطنطين هي صاحبة الفضل وأنعموا عليها بلقب “قديسة”.. ومن اللافت للنظر أن وُسيبوس القيصري، الكاتب الكنسي الوحيد المعاصر للقديسة هيلينا، والذي لم يترك شيئا يعود بميزة ما على المسيحية إلا وأدرجها، وقد ألّف كتابا عن “حياة قسطنطين”، ولا يرد فيه عملية اكتشاف والدته للصليب، ولم يتحدث عن هذه الجزئية على الإطلاق !. إلا أن ذلك لا علاقة له بتوالد الأساطير.. أما المؤرخ چورتان فيقول “إن القصة كلها من تأليف مسيحيي القدس بعد وفاة الإمبراطور قسطنطين ووالدته”..

وقد تم تسجيل الواقعة في التقويم الكنسي بيوم 3 مايو سنة 326، وهو تاريخ الذكرى الأولى لمجمع نيقية الذي تم فيه تأليه يسوع والاستجابة لطلب الأسقف مقار للبحث عن قبر يسوع وصليبه. وهنا تبدو براعة كيفية تأليف الأحداث والتفاصيل والربط بينها.. وفي القرن الخامس تم اختلاق “عيد اختراع الصليب” (inventio crucis) والذي يقصد به الاحتفال بالعثور على الصليب “الأصلي”، ثم تحول مضمون الاحتفال من دليل على موت يسوع إلى إثباتٍ لبعثه يوم 14 سبتمبر.  واستمر الاحتفال بالعيدين إلى أن تم إلغاء الأول سنة 1960 لاستبعاد سيرة وفاته والاحتفاظ بعيد بعثه و”تغلبه على الموت وبعثه” ـ الذي لا دليل عليه..

توالد الأساطير:

لقد عادت قصة “اكتشاف” الصليب الحقيقي ليسوع في القرن الرابع إلى الظهور ثانية، في القرون الوسطى، بفضل كتاب “الأسطورة الذهبية” الصادر سنة 1260، للكاتب چاك ڤوراچين، الذي أضاف رصيدا جديدا من المعجزات والقصص والأساطير.. أما چان ݒيير كاسلي فيقول في كتابه “ݒروڤانس المتفردة والسرية” (ݒروڤانس اسم مقاطعة في جنوب فرنسا)، “يوجد في أوروبا حوالي خمسون الفا من البقايا المقدسة المتناثرة في كل مكان وهي ناجمة عن حوالي خمسة آلاف قديسا”.. ثم يضيف مؤكدا: “ان أكبر جامع للتحف المقدسة كان الملك فريدريك الثالث (1463ـ1525) الذي استطاع أن يجمع 21441 بقية مقدسة، منها اثنان وأربعين جسدا كاملا لقديسين في حالة حفظ كاملة”، ويا لها من معجزات.. وينهي الكاتب هذه الجزئية من كتابه بأن الخيال الشاطح للقساوسة أدى بهم إلى زعم الاحتفاظ بنَفَسْ يسوع في قنينة زجاجية صغيرة، وهي محفوظة في كاتدرائية ويتنبرج بألمانيا”، واللهم لا تعليق..

ولقد اهتمت الكنيسة بإيجاد كل صغيرة وكبيرة تم ذكرها في الأناجيل خاصة في عملية صلب يسوع ودفنه إلا ووجدوا لها النموذج الأصلي بغض الطرف عن إمكانية صموده لعوامل الزمن، في وقت لم تكن فيه وسائل الاحتفاظ بالأشياء معروفة. فبخلاف غرلته الشهيرة قد عثروا على أسنان اللبن التي بدلها، وعلى الحبل السري، وعلى السكين الذي استخدمه في العشاء الأخير، وعلى الإسفنجة التي سقوه بها خلٍ، وعلى بضعة نقاط من دموعه، وهي محفوظة في دير ڤاندوم، وتوجد هي نفسها في سيلانكور، وآلواچ، وتييرز، وشامليه، وفونكارنو وأورليانز.. ولم تجف أو تتبخر رغم مضي الفا عام..

وكانت الكنيسة تؤكد أن خشب الصليب الأصلي يتمتع بخاصية متفردة، هي خاصية الإنبات الذاتي والنمو التلقائي، إذ كلما قطع أحدهم قطعة من خشبة الصليب الأصلي، وباعها للتبرك بها، نمت مكانها نفس الجزئية أو أكبر منها. فلا يوجد دير أو كنيسة لا يحتوي كلا منها على قطعة “أصلية”.. وفي بعض الأماكن كانت القطع كبيرة مثلما في باريس أو روما..

ونفس الإمكانية المباركة للإنبات الذاتي انتقلت للقديسة هيلينا، إذ اكتسب جثمانها خاصية النمو الذاتي وأصبح لها جسدان كاملان أحدهما في أحد الأديرة بفرنسا والآخر في كنيسة في روما، وكلاهما مصحوبا بشهادة من الفاتيكان بأنه الجثمان الأصلي للقديسة هيلينا. ولعل القساوسة اعتمدوا على أن السفر والتنقل قديما لم يكن سهلا وإن أحدا لن يكتشف الأمر، خاصة وأنه يدخل تحت بند الورع الديني..

أما رأس يوحنا المعمدان فهي تعد من الآثار المقدسة المتفردة أيضا، وقد اشتراها الملك لويس التاسع، ملك فرنسا، لكن مع مرور الوقت اتضح أن هناك “رأس أصلية” أخرى في مدينة آميان، وفي مدينة ليون، وفي موريين، وآنچلي، وفي روما، كما توجد في اسبانيا والمانيا وفي أماكن أخرى لطرح البركة على الأتباع.. ولا أقول شيئا عن تجارة البقايا المقدسة العلاجية وكل ما جلبته للكنيسة من أموال وعطايا..

وليس من فراغ أن كتب دكسن وايت سنة 1896، عن “تاريخ الصراع بين الدين والعلم” قائلا: “وبقمعها المخالفين وإقامة محاكم التفتيش ضد من أطلقت عليهم “الهراطقة” فإن المسيحية قد افتتحت عهدا جديدا من العبودية الذهنية، إذ أوصلت الاستبداد إلى أعمق أعماق عقول البشر، وبذلك قد أصبحت عائقا أو حجر عثرة للتقدم الحضاري في أوروبا لأكثر من ألف عام”. أما چوزيف هويلر فيقول في كتابه عن “جرائم المسيحية” : إن المسيحية ليست مسئولة فحسب عن تزوير الوثائق لأغراض ما، ولكن هي مسئولة عن العديد من المعجزات التي لا توصف إلا بالخداع والنصب والحكايات الكاذبة والأساطير المربحة”..

زينب عبد العزيز

19 يوليو 2016